الخميس، 14 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (17) :

حكايات من الماضي البعيد (17) :
ما أقسي لحظات الوداع ، لقد حان وقت الفراق ، فراق القرية الصغيرة الهادئة (ويسي) ، وفي قبالتها جهة الشرق مناظر وبيوت وأشجار (ادن دان) التي كنا نرمقها كل صباح ، تماما كما يحدث في ارقين كلما ذهبنا إلي شاطئ النيل وننظر إلي جبل الصحابة واشكيت . عندما عدنا إلي منزل الخالة ، جمع حوائجنا وترتيبها ووداع أهل القرية صبيحة الغد ، كان شغلنا الشاغل بعد أن أخذوا فاطمة عائشة إلي شفخانة فرص . كنت واثقا بأنها ستعود وقد استردت عافيتها . داؤود جمعة مدير الشفخانة معروف بأنه رجل يجيد مهنته . يستطيع أن يشخص المرض ويحدد الدواء بسهولة . لقد جربتاه في ارقين . وبالمناسبة منزل أسرته في (أمبي) جنوب أشاون إركي مباشرة ، ويقضي الآن يقضي جزءا من خدمته في مجال تخصصه في فرص . هاج في نفسي شوق مكتوم ، أخيرا سأغادر إلي موطني (أرقين) بنفس الطريق الذي سلكناه للوصول إلي هنا عبر نقطة الحدود . بدأت أرسم في مخيلتي أهم ملامح قرية (ويسي) للذكري ، لا يعلم الغيب ألا الله ، فقد لا أزورها مرة أخري ، وبينما كنت أسبح في خيالي ، قفز إلي ذهني صورة الصبي رمضان الذي شغلني بقصص الغرام ومرض العشق الذي يعاني منه . ولكن أين أجعله في تسلسل درجات الذكرى في مخيلتي وبأي حال ؟ سؤال انطوي علي قيم ومفاهيم أخلاقية تتجاذبها الوفاء للعلاقة التي نمت وتطورت بيننا علي مر الأيام التي قضيتها هنا ، وبين ما ذكرته الخالة بأنه يجلس مع الكبار ويستمع إلي أحاديثهم التي لا تليق بأعمارنا . حزّ في نفسي أن يكون صديقي مثار جدل صامت في دواخلي . ثم يعود الضمير ليناطح فكرى ويوحي بأن العشق والحب ما كان يوما من المحرمات ، إنما المحرمات أن تنتهك حرمات الناس في حضورهم وغيابهم . لست أدري أي من هذه المعتقدات أصح حالا ؟ ما جئت بها من أرقين ، أم ثقافة العشق الحديدة التي حطم بها رمضان أسواري وقلاعي واستطاع أن يفرضها علي عقلي رغم أنف إرادتي بسحر بيانه وببلاغة منطقه ؟ أخيرا وصلت إلي حل وسط . سأبحث عنه غدا صباحا وأودعه علي كل حال ، هذا ما يفرضه الواجب ، أما أفكاره وقصص عشقه فسوف تحال إلي مكتبة الذكريات لأنني لن أقابله مرة أخري ولن يجد سبيلا ليسمعني الجديد من أخباره . هذه هي سنة الحياة ، لقيا ثم فراق ، ورغم شيوع المثل الشعبي ( الحيّ بلاقي) لا أعتقد أنني سأعود إلي (ويسي) يوما ما .
(أين حب الخروع ) ، انتبهت من سرحاني وخيالاتي بهذا السؤال الموجه من الوالدة للخالة وقد اقتحم مسامعي وكأنه كان موجها لي أنا شخصيا . فأجابتها ، في كورية بالقرب من القسيب . والقسيب إناء يصنع من الطين في حجم البرميل ، يخزن فيه ثمار التمر أو القمح وله غطاء مثبت من الطين ، وفتحة في أسفله يسمح بتدفق الحبوب . أما حب الخروع فيوضع ويمسح به سطح دوكة الطين الساخنة عندما تكون جديدة ، وهذه العملية بمثابة تليين لسطحها ليكون ناعم الملمس لا تلتصق به الكابيدة فتتمزق ، وبالنوبية يقال لها (قاوى) . بعد قليل استنشقت رائحة قراصة القمح تفوح من المطبخ ايذانا بقرب تناول وجبة العشاء ، ليس لجوع كنت أعانيه ، وانما لنأوى إلي النوم بعد العشاء انتظارا للصباح حيث موعدنا مع رحلة العودة الي موطننا أرقين . ونواصل إنشاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق