الاثنين، 11 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (14) :
كنت مشدوها بحكاوي رمضان ، ومعلوماته الثرة عن القرى والبلدات النوبية في الأراضي المصرية ، وكان الحديث ينساب من فيّه وكأنه شلالات ماء منهمر . في تلك اللحظة مرت بنا باخرة ركاب بيضاء اللون متجه شمالا ومكتوب في أعلي سطحها اسم (هكسوس) . استرعي انتباهي هذا الاسم الذي لم يكن معهودا لدينا نحن الأطفال كنا نجرى لضفة النهر كلما مرت بضفافنا باخرة ركاب شمالا أو جنوبا بين وادي حلفا والشلال ، وأحيانا لم نكن نفارق ضفة النيل ، ونظل نجلس تحت ظلال النخيل أو أشجار السنط وأغنامنا ترعي علي نباتات السعدة وترتوى من مياه النيل ، وأحيانا كنا نمارس السباحة ونصطاد الأسماك ونساعد ذوينا عند زراعتهم لأراضي الجروف . عندما تمر بنا البواخر ، كان من العادة أ ن يلوّح لنا ركابها بالأيدي في رواحهم وعند عودتهم من مصر . انتهزت مرور الباخرة (هكسوس) وأردت أن استعرض لرمضان ورفاقه بعض معلوماتي عن (كنيات) البواخر السودانية العاملة بين حلفا والشلال فشرعت أذكرها : الباخرة المريخ ، وعطارد ‘ وقطبي ، والثريا ، لكنه سارع بتلقيني درسا آخر بذكر البواخر المصرية ، كرسكو ، الأقصر وهكسوس ، وبواخر أخرى كانت تسمي (دلتا) مخصصة لنقل البضائع ، وأخرى كانت مخصصة لنقل المواشي بين السودان ومصر ، وكان معلوما لدينا أن الأخيرة كانت سريعة تثير الأمواج العالية عند إبحارها شمالا أو جنوبا ولذلك كانوا يستخدمونها لإخراج جثمامين الغرقى .
أما المراكب الشراعية ، لم أرها طيلة أيام وجودي معهم إلا نادرا ، ذلك لأن هذه المنطقة كانت الرياح الشمالية هي السائدة فيها والتي تساعد المراكب علي الإبحار جنوبا ، بينما كانت (ويسي وأدندان) تشكلان آخر القرى في حدود مصر مع السودان ، ولذلك فهم في حاجة للإبحار شمالا عكس الرياح ، وأحيانا تنعدم الرياح كليا مما يضطرهم إلي جرّ اللبان ( طيّ شراع المركب وشخص أو شخصان يجران المركب بربط الحبال في وسط الجسم ويسيران علي الشاطئ حتى الجهة المقصودة ) . أما في وقت الفيضان (الدميرة) فيزداد تيار النهر شمالا مع كثرة الدوامات التي كانت تسمي باللغة النوبية (شيمة) ، وهي ظاهرة غريبة ومخيفة في نفس الوقت تدور فيها المياه حول نفسها بسرعة شديدة في مكان واحد مهددة المراكب الشراعية . أما مسارالنهر في المنطقة التي كنا فيها وتضم (ويسي) و(بلانه) و(أدندان) بالشرق , كان النهر يتخذ مسارا يتجه إلي الشمال الشرقي ، وطبيعة الأرض في هذه المناطق كانت سهلية بتكويناتها الرملية الكثيفة وتشكل امتدادا طبيعيا لقرى فرس شرق وغرب السودانية .


سألت رمضان ، في أي سنة دراسية هو ؟ فأجابني قائلا : في خامسة ابتدائي ، سألته مستغربا ما معني ابتدائي ؟ فضحكوا جميعا وقالوا ماذا تسمونها عندكم ؟ قلت لهم نسميها الأولية . قالوا ، هنا ندرس ستة سنوات في الإبتدائي ثم نمتحن للمرحلة الإعدادية . فأدركت أن نظام التعليم المصري يختلف عن نظامنا التعليمي فقمنا من تحت الشجرة الظليلة وقد اكتسبت معارف جديدة لم تكن تخطر ببالي . سرنا علي ضفة النهر فصادفتني نبتة كنا نسميها بالنوبية (تنوم) وباللغة العربية تسمي (الدمسيس) ، فملت عليها وقطفت شيئا قليلا من أوراقها الشبيهة بشجرة الطماطم ووجهت لهم سؤالا ، أتعلمون فيم تستخدم هذه النبتة ، فضحكوا جميعا وهم يرددون : لا يستخدم في شيء . قلت لهم ، وقد شعرت هذه المرة بأنني أصبحت سيد الموقف والمبادرة بيدي ، هذه النبتة تعالج أمراض كثيرة في الجسم وأمراض البطن بصفة خاصة وأهمها مرض (الدوسنتاريا) . فوقفوا مشدوهين غير مصدقين ، فقلت لهم أسألوا عنها كباركم وسوف تعلمون حقيقة ما فلته لكم ، وبعدها بقليل انتصف النهار وعدنا بأغنامنا للقرية . ونواصل إنشاء الله

سيد ابكر .............

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق