الاثنين، 11 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (13) :
الإحساس بالغربة في بلاد النوبيين يعتريك في الوهلة الأولي ، وبعد التحية والسلام والسؤال عن الحال والأحوال يزول ذلك الشعور تلقائيا ، وتجد نفسك وقد أصبحت واحدا منهم في القرية أو في الحيّ السكني . طمأنتني والدتي بأننا لن نذهب إلي ابوسمبل لزيارة الخالة شفوقة لأن والدي في حاجة إلينا في ارقين . فهو رجل يكسب رزقه بعرق جبينه رزق اليوم باليوم من خلال ما يجده من عائدات المركب ويقتسمها مع صاحبها . في الأيام التي يقل فيها عمل المركب بسبب كساد سوق المحاصيل التي تنقل للمدينة ، يعمل والدي في قطع أشجار الأثل أو السنط ويشققها بعد أن تجف وينقلها لأصحاب المخابز في المدينة ، لذلك فهو يحتاج إلي من يساعده بالماء والزاد والشاي في مكان عمله ، وأنا ذلك الولد الذي يحمل له كل هذه الأشياء عندما يكون مشغولا في المناطق البعيدة من المنزل .

في ذلك الصباح استأذنت والدتي لمرافقة صبايا القرية في رحلات رعي الأغنام ، وبعد شراب شاي الصباح انتظرت حتى جاءوا لسوق أغنام خالتي فاصطحبتهم وهم مسرورين بتلك الرفقة . رمضان ، كان أكبر المجموعة سنا ، بادر بالتعرف بي عن قرب وحكي لي أن والده يعمل في مصر مثل سائر النوبيين ويسكن في (بولاق الدكرور) ، ما عرفت معني بولاق الدكرور ولكنه فسرها لي بأنها حي من أحياء القاهرة في مصر تقطنها الطبقات الفقيرة من السكان خصوصا النوبيين الذين يعملون هناك . عندما سمعت منه هذه المعلومات تذكرت بعض أهلنا من أرقين في مصر يسكن أكثرهم في عابدين حسب ما كنت أسمع أثناء ونساتهم عندما يحضرون في إجازاتهم السنوية ، وخطر لي بأن ناس أرقين يسكنون الأحياء الراقية بالمقارنة مع بولاق الدكرور . وصلنا إلي مكان المرعي ولم نشعر بالمسافة ولا بصوت الأغنام والمعيز اثناء سيرنا لأن رمضان شغلني بأحاديثه الشيقة عن مصر التي زارها مرارا لرؤية والده . جلسنا ومعنا بقية الصبيان الذين كانوا يحدقون في وجهي تحت شجرة ظليلة بينما تركنا الأغنام والمعيز ترعي لوحدها ، ومن حديثه وجدته يحفظ القرى والبلدات من (ويسي) إلي أسوان عن ظهر قلب ، فانتهزتها فرصة لأتعرف علي أبو سمبل من صبي خبير بالمنطقة ، فطفق يحكي لنا وأنا متعجب من كثرة معلوماته فقال : من هنا وشرقنا أدندان نبدأ شمالا ، وصار يعدد لي : ويسي بالغرب وادندان بالشرق ، قسطل وبلانة وابو سمبل وأرمنا وقد نطقها (أرمندا) ، وتوشكي شرق وغرب ، ومصمص والشباك والجنينة ، عنيبة وابريم والجزيرة ، وقتة وعافية وتوماس ، وتنقالة والدر ، الديوان وأبو حنضل ، الريقة وكرسكو شرق وغرب ، ووادي العرب إلي أن وصل بي أبو هور وكلابشة ودهميت ودابود وأسوان . أزداد إعجابي برمضان لمعرفته بكل هذه القرى والبلدات وغيرها ولم يتجاوز عمره العشرة سنوات وكان يكبرني بسنتين أو ثلاثة سنوات فقط ، ولكنه حقيقة ظل مثار إعجابي لزمان طويل وكنت أتذكره بجلبابه الأخضر المخطط ولونه القمحي حتى بعد عودتنا إلي أرقين بزمان . ونواصل إنشاء الله
سيد ابكر................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق