الاثنين، 11 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (11) :
بعد قضاء جل اليوم في الغيط كما يقال للحقل هنا في النوبة المصرية ، عدنا إلي بيت خالتنا في منتصف النهار ، وأجلس الآن في فناء البيت بالقرب من النخلة الوحيدة والوقت ما بعد صلاة المغرب . الرملة ا لمفروشة في الحوش يختلف لونها عن الرمال البيضاء التي نراها في أطراف الصحراء في بلاد النوبة . عادة ما تجدد رملة الحوش وتليّس حوائط المنزل وجدران الغرف من جديد عندما تقترب المناسبات السعيدة كالأفراح ، أو عند عودة رب الأسرة من مقر عمله في مصر في إجازته السنوية . الخالة والوالدة كانتا في المطبخ ( ديوي شا ) يعدان وجبة العشاء علي ضوء البُكُّول (*) ورائحة العدس تفوح في الحوش . جاءت الخالة وهي تحمل في يدها لمبة زجاجية صغيرة كان يسمونها (السهارة) فوضعتها بالقرب مني ثم قالت : ( أقنتو دنيا شوشيان أنقري أوكا تيقوس ) ، هكذا نصحتني الخالة ، بمعني الدنيا مشوشة ن أيّ يوجد هواء يحرك الهوام مثل العقارب وغيرها ، لذلك أجلس علي السرير . والسرير الذي تعنيه الخالة مصنوع من أخشاب طولية يسمي (المريق) وخشبتين عرضيتين اقل طولا من الأخريات . وفي الأخشاب الطولية توجد مجاري عرضها بوصة واحدة يرص فيها جريد النخل بطريقة بديعة بعد تشذيبها بدلا عن الحبال . 

في النوبة ، أنسب وقت يتجاذب فيه الناس أطراف الحديث هو ، أثناء جلسة تناول الطعام . تبيّنت يومها أن كثيرا ما الأشياء تحدث علي غير ما نتوقعها ، وبدون أن تكون لنا أدني فكرة عنها ، وعندما تقع مثل هذه الأحداث نسميها المفاجأة ، والمفاجأة قد تكون سعيدة وقد تكون محزنة . كنت قد نويت في سري أن نستأذن الخالة في الرحيل والعودة إلي ارقين التي أوحشتني طيلة بقائي هنا في (ويسي) . وبدون مقدمات وجهت الخالة حديثها للوالدة ، إن زوجها عابدون قد علم بوجودنا هنا ويستفسر إن كان والدي بإمكانه أن يقيل عرضا للعمل في مصر لأنه وجد له خانة عمل في القاهرة . فأجابت الوالدة بأن ابن خالة والدي محمد صالح الذي يعيش مع أسرته في مصر سبق أن جاءه في البيت لاصطحابه معه ، إلا أنه رفض قائلا : إنني خلقت لأجل أرقين ورفض العرض ولذلك لا أعتقد أنه سيقبل عرضا جديدا . قالت الخالة إنشاء الله لما تعودوا شاوريه مرة أخرى وأفيدونا بالرد ، فأجابتها الوالدة وهي غير مقتنعة إنشاء الله .
عندما سمعت ذلك الحوار بينهن ، كبر والدي في نظري ، لأنه وقبل ذلك رفض الحياة في البندر في بيوت والده بمدينة عطبرة حيّ المربعات شارع كسلا ، رفض حياة الترف والعيش هناك مع أ خوانه وأخواته من الزوجة الثانية لأبيه وهو في الثامنة من عمره ، وأصرّ علي العودة إلي أرقين مسقط رأسه مع والدته ليعيش كل عمره وسط نخيل جده من والدته في (أشاون إركي) . انتهزت تلك الفرصة الذهبية وقلت لأمي ، يو يو ، ألا يكفي ما قضيناها من أيام مع الخالة ، الم يحن وقت عودتنا لأرقين ؟ فانتهرتني الخالة قائلة : أنت كرهتنا ومتى جئت لتعود . قلت لها ، لا يا خالة والله ما كرهتكم بل أعجبت بالحياة عندكم لكنني مشتاق للأصدقاء والصحاب وأيام المدرسة . قالت ، أولا ، أنت وأمك وأنا ، سوف نتحرك بعد يومين إلي أبو سمبل لزيارة أختنا شفوقة ، ولكي لا تصاب بالملل سوف أحدث لك أولاد القرية ليتعرفوا بك ويصاحبوك طيلة ما أنت معنا في (ويسي) . أصبت بالذهول حينما سمعت تلك الكلمات ، أولا لقد فوجئت تماما بوجود خالة أخري أسمها شفوقة تعيش في مكان أبعد من المكان الذي نقيم فيه الآن ، ثانيا ، لأنني وضعت نفسي في موقف حرج عندما أحسست بأن الخالة تعتقد أنني عاجز عن إقامة علاقات مع من هم في سني في قريتهم ، لقد جرحت هذه الكلمة كبريائي لأنني من أشقي الأولاد في أرقين ، والأمر لم يكن كما اعتقدت الخالة بمثل ذلك السوء ، ولكنني فضلت عدم التعرف عليهم باعتبار أن مدتنا لن تطول إلي هذا الحد . ولكي استجمع بعض كرامتي المهدرة ، أردت الالتفاف حول الموضوع متصنّعا ومتسائلا من هي شفوقة ، وأين تقع أبو سميبل ؟ نجحت خطتي عندما ردت الخالة ، خالتك شفوقة صادق ، عندك خالة ثانية اسمها شفوقة صادق ، وأبو سمبل ليست بعيدة من هنا وطالما وصلتم ويسي ، ينبغي ألا تعودوا الا بعد زيارتها وتكملوا الجميل . أردت التمادي أكثر ، فقلت لها ولماذا لا تأتي هي إلي (ويسي) ، فصرخت الوالدة في وجهي صرخة مزقت سكون الليل قائلة لي ، اسكت يا لميض . ونواصل أنشاء الله
(*) البكول علبة أي علبة يلحّم غطاؤها وتثبت في منتصفها ماسورة صغيرة من نفس المعدن ويوضع فيها شريط من القماش بعد ملء العلبة بالكيروسين ، ويشعل الشريط للإنارة .

..سيد ابكر ..........

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق