الاثنين، 11 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (15) :

حكايات من الماضي البعيد (15) :
بشريات الوالدة التي سكبتها في أذني بأننا سنعود إلي موطننا في أرقين ، لم تعد تهمتي كثيرا . كلما مرّ بنا يوم في هذه القرية الصغيرة الهادئة ، كانت علاقاتي تتوثق أكثر فأكثر مع الصبي المدعو رمضان لدرجة أنه كان يصارحني بكل أسراره دون وجل . كنا أطفالا بحكم أعمارنا وحجم أجسادنا ، ولكننا كنا كبارا بأفكارنا ومداركنا . كنا نتعلم من الطبيعة حقيقة الأشياء والكائنات استنباطا . ونقتبس من كبارنا كرائم الخصال
والأخلاق بالمشاهدة والتقليد . ونختزن الحكم والعبر من أحاجي جداتنا وأمهاتنا . ثم بعد ذلك يأتي دور معلمينا ومدارسنا لتصقيل معارفنا ومفاهيمنا وقيمنا التي ورثناها أو اقتبسناها لتصقلها لنا المدرسة ومدرسينا بالوسائل العلمية الأكثر تطورا في زماننا . كل ما تعلمتاه بالسجية كانت تترسخ في عقولنا عندما نقارنها بمختلف العلوم المكتسبة من المدرسة خصوصا أثناء حصص الدين ، عندما يشرح لنا الأساتذة آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية . كان المعلم نفسه ، يجد منا التقدير لدرجة الخوف . فإذا سلكنا طريقا ووجدنا أستاذنا يسير في نفس الطريق كنا نترك الشارع لنسلك طريقا آخر . وإذا حضر الأساتذة مناسبة فرح وزواج في بيوتنا كنا نختفي عن أنظارهم إجلالا واحتراما لمقاماتهم السامقة . كانت هذه هي معتقداتي التي حملتها بين جوانحي عندما وصلت إلي قرية (ويسي) لزيارة خالتنا في النوبة المصرية شمال (فرس) . كانت الأيام في ويسي تسير بنا الهوينا الي أن تعرفت بهذا الصبي المدعو رمضان الذي سلب لبي وعقلي بمعارفه وثقافته الغزيرة . توالي الأيام كانت كفيلة بمعالجة وكشف الكثير من الأمور ، بعضها أعرفها وبعضها أجهلها تماما . ذات يوم ونحن نتجاذب أطراف الحديث في ظل شجرة عند أطراف القرية ، طلب رمضان من بقية الصبية أن يقوموا بسوق الأغنام إلي المنطقة القريبة منا حتى تكون قيد المراقبة . وتلك لم تكن حجته ولكنه أراد بذلك أن يصرف الصبية ليبوح لي بسر ظل يكتمه في صدره ثم أقبل اليّ بكلياته قائلا ، أخي أنا متيم بفتاة في هذه القرية ومغرم بها إلي حد العشق فماذا ترى في أمري ؟ نزلت عليّ كلماته مثل صاعقة مرسلة ، اهتز لها كياني وتشتت أفكاري وتمزق وجداني من هول ما صرّح به . تظاهرت بالهدوء وثبات جناني وقلت له : كيف تقول ذلك وهي ابنة قريتك والأولي بك أن تصونها بدلا من عشقها . فرد عليّ قائلا ، العشق ليس حراما أيها الأرقيني المسكين ، إنما هو شعور ينبع من قلب إلي آخر ويظل مشتركا بين شخصين ، وأنا لم أقابلها ولم أتحدث معها ، لكنني أتصنع المشاوير إلي جيرانها ، وأمر أمام منزلها ، وأتصور وأتحين المناسبات لأراها ، وانتظر خروجها لورود الماء في النهر عند الأصيل ، وأحمل في جيبي حفنة من تراب أقدامها أضعها في صدري عندما آوي إلي فراشي في الليل . لأول مرة استسلم للهزيمة أمام هذا العبقريّ وأزداد إعجابي به وبقدراته التعبيرية وهو في ذلك العمر المبكر . قلت له : أين تعلمت كل هذا الفن من الحديث ، ومن ساعدك فيه ؟ أجابني بلغة بليغة (الدنيا بتهينك والزمان يوريك ، وقل المال يفرقك من بنات واديك) ، وأضاف قائلا : عش للحب وإن لم تعرفه أسال عنه أهله ، وعندما تعود إلي بلدتك أرقين تذكر ما قلته لك ، أما أنا فلسوف تسمع عني كل ما يسرك في حياتك أيها الصديق . ما أن انتهي هذا الصبي العبقريّ من حديثه حتى انكمشت علي نفسي خجلا من قدري أمام هذا الصبي العملاق وأقسمت أن أكون مثله واقتدي به ، وبعدما عدت إلي أرقين حال بيننا الهجرة المشئومة ولم اسمع عنه شيئا ولا دريت ماذا فعلت به الأيام منذ لقائنا ذاك إلي يومنا هذا . ونواصل إنشاء الله
سيد ابكر ........

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق