الاثنين، 11 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (16) :

حكايات من الماضي البعيد (16) :
في مساء يوم عدنا من المرعي ، كان حديثي انطباعيا عن الصبي رمضان والذي أحسب أنه كان يوما خالدا في ذاكرتي . ( أوعك ثاني أشوفك مع الولد دا ، ولا أشوفك بتلعب معاه ) !!! قالتها خالتي موجهة تحذيرها لي بنبرة نوبية حادة فظة لدرجة أزعجتني هذه الجملة . لماذا يا خالة ؟ سألتها منتظرا الإجابة في لهفة وترقب ممزوجين بشفقة وخوف يعتريني من عواقب إجابتها علي سؤالي . ردت عليّ قائلة : الولد دا أكبر منك سنا ، ودائما يجلس مع الكبار ويتحدث بكلام لا يليق بصبيان في سنكم ، فأصبت بالدهشة لأن إجابتها الواضحة والصريحة جاءت وكأنها كانت معنا أو استمعت لمقالة رمضان عن الحب والعشق في ظل الشجرة البعيدة عن القرية . لكنني حمدت الله كثيرا عندما اكتشفت أن سبب انزعاج الخالة أن صديقي رمضان يتحدث بكلام الكبار ، وهنا أدركت سر بلاغه رمضان في الحديث وبراعته في التعبير ، لكنني وفي نفس الوقت استحضرت زجر الكبار لنا أحيانا عندما نقترب من مجالسهم في ظلال النخيل ، واكتشفت أن سر زجرهم أو بالأحرى منعنا من الجلوس معهم أو قريبا منهم كان مرده أن الأحاديث التي يخوضون فيها لا ينبغي علينا أن نسمعها لأنها لا تتوافق مع أعمارنا ، ويعد ذلك نوعا من التربية . في تلك اللحظات كانت والدتي تغسل بعض الأواني المنزلية بالقرب من المطبخ وهي تستمع للحوار الدائر بيني وبين خالتي ، فقالت موجهة حديثها للخالة : هو دا ذاتو مقصرّ ، في إشارة إلي فصاحتي وبداهتي في الحديث . في هذه اللحظة سمعت طرقا بالباب ، وأسرعت بفتح الباب الخشبي الكبير وهو يحدث صريرا (صوت احتكاك الأخشاب مع بعضها من ثقلها ) . فوجدت الطارقة امرأة وقد اندفعت إلي داخل البيت بسرعة غير أبهة بمن فتح لها الباب وقالت لخالتي : فاطمة عائشة أراب تعبانه والناس متلمين هنالك . انزعجت الخالة والوالدة لهذا النبأ فلبسن الجرجار بسرعة وحملت خالتي طفلتها وأغلقت الباب ثم نزعت المفتاح الخشبي ودفنته في الرمال قريبا من عتبة الباب ، وأسرعن في المشي وهن يرددن يا الله أستر ، سترك يا رب . فاطمة عائشة أراب ، وهذا لقبها هي تلك المرأة التي سألتني في وقت سابق عن السنة الدراسية التي أدرس بها وعن أسماء رئيسي مصر والسودان وتربطنا بها صلة رحم .

وصلنا بيت فاطمة عائشة ، ووجدناها تتألم وتصدر أنينا لا ينقطع وحولها عدد كبير من النسوة كلهن يرتدين الجرجار الأسود . شد ما أزعجني واثأر في نفسي الشفقة أنني عندما رايتها تحثوا التراب بيدها علي بطنها في مكان الألم ، داهمتني شفقة شديدة وحزن دفين خرج من أعماقي لتوه ليفتح لي بابا ما كنت أحسب أنني سأضطر لفتحه يوما ما بعد رحيل جدتي عن الدنيا قبل سنوات مضت . كم كان منظرا مؤلما وكل الحضور ينتظرون حولها دون حديث حتى بهمسة . أين الطبيب ؟ أين المساعد الطبي ؟ لماذا لا تأخذونها للمستشفي ؟ فنظرن اليّ مليا ، واقتربت إحداهن مني قائلة لي ، أصمت ، علاجنا هنا علاج بلدي ، لا نعرف الطبيب ولا التطبيب ومرضها شيء عادي ولسوف تنشط إذا كان لها في العمر بقية . قالتها هذه المرأة وكم تألمت لقولها الخشن الفظ . وعلمت بعد ذلك أنها قابلة القرية ولها باع طويل في العلاج البلدي الذي يسمي في وقتنا الحاضر (الطب البديل) . كنت في غاية السرور عندما أحضروا حمارا لحملها إلي فرس لعلاجها في الشفخانة ، ولكنهن كن متشائمات من الحمار ، ويقولون أن الذي يقع من ظهر الحمار تتكسر عظامه بينما من يقع عن ظهر البعير لا يصيبه أذي ، ولا أدري حقيقة ذلك ولكنها قولة مشهورة ومتواترة بين النوبيين . قامت بعض النسوة برفع فاطمة عائشة من الأرض بمساعدة الرجال ، ورفعوها فوق سرج الحمار ثم توجهوا بها صوب الحدود قاصدين شفخانة (فرس) والرجال يسندونها وبعض النسوة يسرن في الخلف . أما نحن فقد عدنا إلي بيت خالتنا إلي أن تعود فاطمة عائشة من الشفخانة متعافية . ونواصل إنشاء الله
سيد ابكر..............

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق