الأربعاء، 20 أغسطس 2014

حكايات من الماضي البعيد (19) :

حكايات من الماضي البعيد (19) :

ما أطول الليل بنجومه وكواكبه ، يبدو لي وكأنه قد تسمر في مكانه لإغاظتي لأنني انتظر شروق الشمس في شوق لنبدأ رحلة العودة إلي ارقين . كنت أراقب جرائد النخلة في فناء البيت وهي تتماوج مع النسيم الهادئ يمينا ويسارا دون صوت مستلقيا علي برش ملون فوق سرير منسوج بجرائد النخل غاير عابئا لخشونته . أتخيل السهل الرملي الذي سنقطعه سيرا علي الأقدام حتى نبلغ نقطة الحدود . أخذتني سنة من النوم ثم استيقظت علي صياح (ديك) الخالة . تبعه آخرون ، وملأ صياحهم كل الحيّ . لاحظت أن بعض الديوك في صوتها (بحة) ، لكن لم تكن تلك البحة مهما بالنسبة لي . لقد كانت غايتي أن يصبح الصباح فقط . وصياح الديوك يعني أن الفجر قد أوشك . هدوء الليل والمكان يسنح لنا وقتا للتأمل في جمال السماء ، أرقب النجوم بأنواعها ، والكواكب التي تتمايز عن النجوم ببياض لونها . لما كبرت عرفت لماذا تغني المغنون بالليل بقمره ونجومه وكواكبه . 

ها قد أقبل الصباح ، وتحركت الكائنات ، وعادت الهوام إلي مساكنها تاركة آثارها علي الرمل . تبينت الموقف جليا ، فوجدت الخالة تحلب لبن المعيز والوالدة قد أوقدت النار بفروع أشجار ناعمة نسميها بالنوبية (سنتين إيق) . بعد قليل استنشقت رائحة الشاي الزكية تفوح من جهة المطبخ لتعم فناء البيت . قمت من سريري وتمشيت قليلا ريثما يتم إعداد الشاي لكنني في الحقيقة كنت انتظر إشارة أو علامة تؤكد أن رحلتنا قائمة دون تأجيل . شربنا شاي الصباح ثم تنحنحت علني أجد ردا علي سؤالي المكتوم . نظرت اليّ الخالة وقالت لي خلاص سوف أسافر معكم ولكن إلي فرص فقط ، وأنتم ستواصلون رحلتكم إذا وجدتم وسيلة مواصلات ، ثم أردفت قائلة : هنالك مناسبة زواج في ( واحيا) اسم مكان جنوب فرص مباشرة وتعني (الواحة) . كدت أطير فرحا عندما سمعت ما قالته الخالة ، وقلت لها متى سنتحرك ؟ قالت بعد الفطور لأن نساء القرية سيحضرن لوداعكم .

أخذت الخالة في وضع أشياء في مقطف كان زعفه المصنوع منه ملون بالأخضر والأبيض وأنا أراقبها من بعيد ، فوضعت فيها أشياء عينية من الحبوب النادرة في أرقين بالإضافة إلي راسين سكر ، ثم أهدت لي مطرقة (شاكوش) مصنوع من الحديد خصيصا لتكسير رأس السكر وكنت فرحا به أكثر من السكر نفسه . بعد قليل بدأت النسوة يتوافدن وكل واحدة منهن تحمل هدية ، والبعض منهن يضعن شيئا في جيب الوالدة وهن يعتذرن لها لأنهن ما قدرن عمل شيء لها وكانت الوالدة تتأفف من ذلك وترفض لكنهن كن يحلفن بالله العظيم بان لا تردهن . امتلأ البيت بالنساء وتعالت أصواتهن ليحدث ضجيجا في الفناء الذي كان ساكنا قبل قليل سكون الليل . ثم حضر الخال صادق محمد مع زوجته مودعين . تناولن الفطور الذي أخضرنه معهن من بيوتهن مع (ترامس) الشاي ، وبعدها بقليل خرجن جميعهن إلي خارج البيت وبدأت مسيرتنا وسرن معنا مسافات ولم يتوقفن إلا بعد أن حلفت الخالة والوالدة عليهن بالعودة شاكرين لهن سعيهن بقولهن (المودع ما موصل) ، أما الخال صادق محمد ، فقد واصل معنا المسير حتى نقطة الحدود ثم ودعنا ووضع في يد الوالدة شيئا وأيضا دسّ في جيبي شيئا لم أتبينه إلا في فرص . لقد كان المشهد رائعا ، عكس كل طيبة وكياسة النوبيين وتعاضدهم وتكاتفهم مع بعضهم لدرجة أنني رسمت في خيالي صورهن جميعا في فناء البيت الواسع تتوسطهن النخلة التي طالما كانت رفيقتي في الليالي التي قضيتها في القرية الصغيرة (ويسي) ، فيا لها من ذكريات لا تزال تعشش في ذهني رغم مرور كل هذه السنوات . ونواصل إنشاء الله

ذكريات من الماضي البعيد (18) :

ذكريات من الماضي البعيد (18) :
ما أجمل ليالي الأنس في النوبة بعد وجبة العشاء ، فهو ترويح للنفس ومجلس للثقافة والعلوم ومعرفة للأخبار وفي نفس الوقت تواصل اجتماعي . فاطمة عائشة عادت من شفخانة فرص بعد أن تلقت العلاج علي يد الدكتور داؤد جمعة ، هكذا كان يلقب عمنا داؤود رحمه الله وطيب ثراه . حملوا فاطمة عائشة علي حمار وعادت وهي تسير علي قدميها . كان مرضها مجرد (مقص) وعلاجها حقنة في الوريد أذهبت الألم في دقائق . كل أهل القرية كانوا فرحين بشفائها وتوافدوا بالليل إلي بيتها لتهنئتها بالشفاء من ذلك المقص اللعين . ليلة الأنس في هذه الليلة ستكون أمام بيتها بمناسبة شفائها . كانت تستقبل الناس هاشة في تلة الرملة أمام منزلها . كل المهنئين جلسوا علي الرملة إلا من كان له عذر أو سبب يمنعه من حضور جلسة الأنس الكبيرة في تلك الليلة علي غير العادة . أعجب ما في أمر النوبيين في ذلك الزمان ، أنه لا فرق بين رجل وامرأة . تسود بينهم الألفة والمودة والاحترام خصوصا لكبار السن من الرجال والنساء ، وعندما يتحدثون يستمع إليهم الجميع ، أحاديثهم درر ، وتعليقاتهم حكم . قلوب نظيفة بيضاء تماما مثل بياض الرملة التي نجلس عليها وتستمد بياضها أكثر بانعكاس ضوء القمر حتى أننا كنا نرى مسافات من مجلسنا وما يتحرك عليها من حيوانات نتبينها بسهولة من شدة بياضها . حاج أحمد صاحب النوادر والذي قضي سنين طويلة في قصر الملك فاروق كان سيد الجلسة . روي كثيرا من التجارب التي مر بها في حياته في كل مناحي الحياة . في الصحة
والمرض ، وتحدث عن مسببات كثير من الأمراض المعروفة مثل (الكوفار) وبالنوبية يسمي (ورتاب) ويعالج بفصد جنبتي الساقين بالموسي شريطة أن تكون جديدة ، بعدها يسيل دم اسود اللون وينظف مكان سيلان الدم بزعف النخلة ثم يقوم المريض بإخراج هواء كريه من بطنه بواسطة الفم ( يترّع) وبذلك يكون قد شفي تماما ، والكوفار نوع من التسمم يصاب بها المرء غالبا إذا أكل من (الدفيق) المتساقط علي الأرض ، والدفيق ويسمي أيضا ( دفّي ) مرحلة ما قبل اصفرار البلح حيث يكون صغير الحجم وأخضر اللون .
كل هذه المواضيع مطروحة للأنس بينما كان عقلي يسرح مع أحداث الغد المتوقعة لأنني مغادر مع الوالدة إلي فرص ومنها إلي وطني الصغير . نظر اليّ حاج أحمد قائلا : إزيك يا ابني ، ما شاء الله لسع موجودين معانا ؟ خالك صادق ما قال ليّ . أجبته غدا سنغادر إنشاء الله . ثم وجه السؤال للخالة : ليه الجماعة ديل مستعجلين للعودة . صممت الخالة برهة ثم قالت له ( مان شبرن أوكي) مستعجل للعودة . شبرن أوكي ترجمتها الحرفية أيادي القفة (المقطف) أو أضان القفة ، لكن معناها بالنوبية يعني شيء آخر تماما ، فهو ترميز لشخص معين معني بالموضوع ، وفي هذه الحالة ، الشخص المقصود هو (أنا ) ، ولا تريد الخالة التصرّيح باسمي ظنا منها بأنني لن أفهم مدلول الرمز . هنالك رموز أخرى كثيرة يستخدمها الناس في بعض الأوقات حسب الحالة مثل (مان إباريي) ، العبارة ديك ، وهو موضوع معروف للبعض ، وغير معروف للبعض الآخر الغير معني بالموضوع . ومن تجربتي الشخصية ، خلصت إلي أنه من الخطأ أن نعتقد بأن الأطفال لا يفهمون كثيرا مما نقوله أحيانا دون مراعاة لوجودهم معنا إذا كان الحديث لا يليق بهم ولا يسمح به الذوق العام التفوه به أمامهم ، فهم يلتقطون كثيرا منها ويؤولونها علي حسب قدراتهم .
مع رد الخالة لشيخ أحمد ، بعض النسوة سألن والدتي عن مدى صحة خبر مغادرتنا للقرية فلما أجابتهن ب (نعم) ، قلن سوف نرى الأمر غدا إنشاء الله . ونواصل إنشاء الله .

الاثنين، 18 أغسطس 2014

وضاعت الأيام (57) :


نقلا من صفحة نخيل النوبة فرع ارقين 
من كتابات الفذ سيد ابكر سلسة من حلقات وضاعت الايام 

وضاعت الأيام (57) :
ليس بالبندقية وحدها يقاتل الجنود ، بل بكل ما تعلموه من فنون وأساليب القتال المتاحة . هذه قاعدة عسكرية نطبقها عندما نقاتل دفاعا عن أنفسنا وأوطاننا ، بل ربما قاتلنا بأسناننا وبسيف العشر إذا اضطررنا ، لكننا لا نستكين ولا نستسلم أمام جبروت القوة ووحشية السلطة ، هذا ديدننا وحالنا علي مرّ الزمان . سيل المواكب والمظاهرات التي عمت وادي حلفا في أوائل الستينات ، كانت تجسيدا للرفض الكامل للاضطهاد والظلم الاجتماعي ، كما أنها وحدت النوبيين في صفوف تراصت ضد اعتي حكومة عسكرية عرفها السودان بعد خروج المستعمر . ألهبت مظاهرات النوبيين حماس كل القوى التي كانت تعارض الحكومة سرا ، ورفعت الحس الوطني لطلاب الجامعات والمعاهد العليا ، فطرحت ولأول مرة في أركانها قضايا سياسية خطيرة للنقاش لم تكن في مقدور الأحزاب والتنظيمات السياسية التقليدية المعارضة للحكومة تنظيمها . ما يجب أن لا ينساه التاريخ ، ولا يتجاهله كما حدث من قبل ، أن النوبيين في الشمال ، هم أول من تحدوا الرصاص وابتكروا فن التقاط القنابل المسيلة للدموع وإلقائها في شاحنات الكومر التي كانت تقل قوات الأمن . قعقعة السلاح وهدير المجنزرات وطوابير الجنود المدججون بالسلاح وعرض القوة لردع كل من تسوّل له نفسه (عبارة مشهورة للفريق إبراهيم عبود) القيام بنشاط مضاد أو إعلان الحرب علي الدولة ، لم يهتم لها أحد من النوبيين رغم خطورة هذه المزاعم التي صيغت ببراعة . فما كان من السلطة إلا استخدام سياسة (فرّق تسد) وهي قاعدة سيئة الصيت وقديمة قدم الإنسان ، وبالإغراءات المادية استطاعت أن تفرق الكلمة وتخترق الصفوف ليصبح التهجير واقعا بدعاوى أطلقوا عليها زورا وبهتانا لفظ ( تضحية النوبيين من أجل الوطن) . 

ما الذي تبقي لنا لنفعله ولم نفعله ، كانت الطبيعة الخلابة تشكل بعدا أساسيا لحياتنا وشخصيتنا النوبية المتميزة أصلا . كانت وادي حلفا علي شاطئ النيل بمبانيها متعددة الطوابق بيضاءه اللون كعروس زفت إلي النيل يوم سبوعها من تاريخ زواجها الميمون ، تحيط بها صويحباتها عن اليمين وعن الشمال . وكانت وادي حلفا مثل تلك العروس تحفها القري من شمالها وجنوبها بمزارعها الخضراء ، وبحدائقها الغناء ، تصاحبها زقزقات الطيور وأسراب الفراشات علي زهورها ونوارها . كانت صور أشجار النخيل والمانجو والجميز والسنط ، تنعكس علي النيل وتعانقه . ولقد ساهمت هذه الطبيعة الجذابة الجميلة الأنيقة في مقاومة الظلم الذي حل بنا ولم تبخل . لقد فجرت كوامن الشجن وأخرجت من أعماق الشعراء والفنانين إبداعات وكلمات وفن تحدي البندقية وكل آليات السلطة القمعية . (أشدو يا حلفا ، أرض سما آقجنا ) ، غناها صالح ولولي وأثار بها مشاعر النوبيين وحواسهم ، اضطر معها المعتمد حسن دفع الله رحمه الله إلي استدعائه وتحذيره ، لكنه لم يهتم بالوعيد والتهديد فظل يغني ضد التهجير كما غني بالرمزية ، وعندما تقرر تحويل الباخرة الثريا من حلفا إلي مصلحة الوابورات بالخرطوم بحري ، غني ولولي في ذلك اليوم وودعها قائلا ( عديله يا باخرة الثريا إن فراق ايلندو صعبا ) وداعا أيتها الباخرة الثريا ، إن فراقك يمزق قلبي . ثم جاءت ملحمة أرقين ، للشاعر الفذ محمد سليمان حسين ، فقد كانت ارقين رمزا للنيل والنخيل والقرى النوبية والذكريات الجميلة والماضي التليد والحاضر العريق . ثم تتابعت الإبداعات في المحس والسكوت وأغنيتهم المشهورة ( قربلون جناكوقن ، خشم الجنة آكقون ، وردلن زهوردن ، كتا منجا آقا أركونق ، حلفا يا بلادوني) لو خشم القربة أصبحت جنة في الأرض ، ولو بها أبواب الجنة ، ولو تعانقت ورودها وزهورها وتراقصت ، حلفا هي بلادنا . وغني الفنان الراحل محمد وردي باغنيات نادرة تغنت بها بقاع النوبة شمالها وجنوبها .كما ساهم فنانو النوبة المصرية ايضا بروائع ا لغناء في التنديد بالسد العالي وبالتمسك بحب بلادهم مثل الشاعر الفنان مصطفى عبد القادر (اشدوا وايلونا جرحقا فيا منجن نوبا) و (اى فجولين باينا) والفنان سيد جاير (وو حنينا اركى نوبيى وو حنينا) ومن حلفا دغيم الفنان شريف سعيد الذي غنى كثيرا (للنقديين) الذين رفضوا الهجرة وآثروا البقاء يحلفا (اسكانا برندل طراولا) . ومن الشعراء الشاعر علي صالح داؤود ، في قصيدته أه علي حلفا ( ما لقومي تأهبوا للرحيل ، وناوا عنك يا عروس النخيل ) ، وقصيدته لا عاصم اليوم من مياه البحيرة ، وقد صاغها لصديقه الشيخ صالح عثمان رحمهم الله جميعا الذي كان يرفض مغادرة أرضه شكلا ومضمونا ن وتبدأ أبيات القصيدة بـ ( ويلك اليوم من بحيرة ناصر ، أركب الفلك مستجيرا وسافر ، لا تقولن سوف آوي لصخر يعصم الناس من عباب زاجر) . والشاعر إبراهيم عبده الذي أبكي الناس بقصائده عن ضياع النوبة ، ولعل أشهرها ذلك الحوار الذي دار بين الطفلة ووالدها حينما سألته أين تضع مفتاح الباب ، فرد عليها لا ضرورة لذلك لأننا لن نعود إليه أبدا . 
والي.........................لقاء

الأحد، 17 أغسطس 2014

صفحة نوبيون حتي النخاع علي الفيس بوك

https://www.facebook.com/Nubianpharaohs

ادخل وتابع اخبار النوبة  علي نوبيون حتي النخاع انة منبر نوبي يوضح ويعلم ويوجة ويثقف الاجيال فلك المشاركة