الأربعاء، 20 أغسطس 2014

ذكريات من الماضي البعيد (18) :

ذكريات من الماضي البعيد (18) :
ما أجمل ليالي الأنس في النوبة بعد وجبة العشاء ، فهو ترويح للنفس ومجلس للثقافة والعلوم ومعرفة للأخبار وفي نفس الوقت تواصل اجتماعي . فاطمة عائشة عادت من شفخانة فرص بعد أن تلقت العلاج علي يد الدكتور داؤد جمعة ، هكذا كان يلقب عمنا داؤود رحمه الله وطيب ثراه . حملوا فاطمة عائشة علي حمار وعادت وهي تسير علي قدميها . كان مرضها مجرد (مقص) وعلاجها حقنة في الوريد أذهبت الألم في دقائق . كل أهل القرية كانوا فرحين بشفائها وتوافدوا بالليل إلي بيتها لتهنئتها بالشفاء من ذلك المقص اللعين . ليلة الأنس في هذه الليلة ستكون أمام بيتها بمناسبة شفائها . كانت تستقبل الناس هاشة في تلة الرملة أمام منزلها . كل المهنئين جلسوا علي الرملة إلا من كان له عذر أو سبب يمنعه من حضور جلسة الأنس الكبيرة في تلك الليلة علي غير العادة . أعجب ما في أمر النوبيين في ذلك الزمان ، أنه لا فرق بين رجل وامرأة . تسود بينهم الألفة والمودة والاحترام خصوصا لكبار السن من الرجال والنساء ، وعندما يتحدثون يستمع إليهم الجميع ، أحاديثهم درر ، وتعليقاتهم حكم . قلوب نظيفة بيضاء تماما مثل بياض الرملة التي نجلس عليها وتستمد بياضها أكثر بانعكاس ضوء القمر حتى أننا كنا نرى مسافات من مجلسنا وما يتحرك عليها من حيوانات نتبينها بسهولة من شدة بياضها . حاج أحمد صاحب النوادر والذي قضي سنين طويلة في قصر الملك فاروق كان سيد الجلسة . روي كثيرا من التجارب التي مر بها في حياته في كل مناحي الحياة . في الصحة
والمرض ، وتحدث عن مسببات كثير من الأمراض المعروفة مثل (الكوفار) وبالنوبية يسمي (ورتاب) ويعالج بفصد جنبتي الساقين بالموسي شريطة أن تكون جديدة ، بعدها يسيل دم اسود اللون وينظف مكان سيلان الدم بزعف النخلة ثم يقوم المريض بإخراج هواء كريه من بطنه بواسطة الفم ( يترّع) وبذلك يكون قد شفي تماما ، والكوفار نوع من التسمم يصاب بها المرء غالبا إذا أكل من (الدفيق) المتساقط علي الأرض ، والدفيق ويسمي أيضا ( دفّي ) مرحلة ما قبل اصفرار البلح حيث يكون صغير الحجم وأخضر اللون .
كل هذه المواضيع مطروحة للأنس بينما كان عقلي يسرح مع أحداث الغد المتوقعة لأنني مغادر مع الوالدة إلي فرص ومنها إلي وطني الصغير . نظر اليّ حاج أحمد قائلا : إزيك يا ابني ، ما شاء الله لسع موجودين معانا ؟ خالك صادق ما قال ليّ . أجبته غدا سنغادر إنشاء الله . ثم وجه السؤال للخالة : ليه الجماعة ديل مستعجلين للعودة . صممت الخالة برهة ثم قالت له ( مان شبرن أوكي) مستعجل للعودة . شبرن أوكي ترجمتها الحرفية أيادي القفة (المقطف) أو أضان القفة ، لكن معناها بالنوبية يعني شيء آخر تماما ، فهو ترميز لشخص معين معني بالموضوع ، وفي هذه الحالة ، الشخص المقصود هو (أنا ) ، ولا تريد الخالة التصرّيح باسمي ظنا منها بأنني لن أفهم مدلول الرمز . هنالك رموز أخرى كثيرة يستخدمها الناس في بعض الأوقات حسب الحالة مثل (مان إباريي) ، العبارة ديك ، وهو موضوع معروف للبعض ، وغير معروف للبعض الآخر الغير معني بالموضوع . ومن تجربتي الشخصية ، خلصت إلي أنه من الخطأ أن نعتقد بأن الأطفال لا يفهمون كثيرا مما نقوله أحيانا دون مراعاة لوجودهم معنا إذا كان الحديث لا يليق بهم ولا يسمح به الذوق العام التفوه به أمامهم ، فهم يلتقطون كثيرا منها ويؤولونها علي حسب قدراتهم .
مع رد الخالة لشيخ أحمد ، بعض النسوة سألن والدتي عن مدى صحة خبر مغادرتنا للقرية فلما أجابتهن ب (نعم) ، قلن سوف نرى الأمر غدا إنشاء الله . ونواصل إنشاء الله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق