الاثنين، 18 أغسطس 2014

وضاعت الأيام (57) :


نقلا من صفحة نخيل النوبة فرع ارقين 
من كتابات الفذ سيد ابكر سلسة من حلقات وضاعت الايام 

وضاعت الأيام (57) :
ليس بالبندقية وحدها يقاتل الجنود ، بل بكل ما تعلموه من فنون وأساليب القتال المتاحة . هذه قاعدة عسكرية نطبقها عندما نقاتل دفاعا عن أنفسنا وأوطاننا ، بل ربما قاتلنا بأسناننا وبسيف العشر إذا اضطررنا ، لكننا لا نستكين ولا نستسلم أمام جبروت القوة ووحشية السلطة ، هذا ديدننا وحالنا علي مرّ الزمان . سيل المواكب والمظاهرات التي عمت وادي حلفا في أوائل الستينات ، كانت تجسيدا للرفض الكامل للاضطهاد والظلم الاجتماعي ، كما أنها وحدت النوبيين في صفوف تراصت ضد اعتي حكومة عسكرية عرفها السودان بعد خروج المستعمر . ألهبت مظاهرات النوبيين حماس كل القوى التي كانت تعارض الحكومة سرا ، ورفعت الحس الوطني لطلاب الجامعات والمعاهد العليا ، فطرحت ولأول مرة في أركانها قضايا سياسية خطيرة للنقاش لم تكن في مقدور الأحزاب والتنظيمات السياسية التقليدية المعارضة للحكومة تنظيمها . ما يجب أن لا ينساه التاريخ ، ولا يتجاهله كما حدث من قبل ، أن النوبيين في الشمال ، هم أول من تحدوا الرصاص وابتكروا فن التقاط القنابل المسيلة للدموع وإلقائها في شاحنات الكومر التي كانت تقل قوات الأمن . قعقعة السلاح وهدير المجنزرات وطوابير الجنود المدججون بالسلاح وعرض القوة لردع كل من تسوّل له نفسه (عبارة مشهورة للفريق إبراهيم عبود) القيام بنشاط مضاد أو إعلان الحرب علي الدولة ، لم يهتم لها أحد من النوبيين رغم خطورة هذه المزاعم التي صيغت ببراعة . فما كان من السلطة إلا استخدام سياسة (فرّق تسد) وهي قاعدة سيئة الصيت وقديمة قدم الإنسان ، وبالإغراءات المادية استطاعت أن تفرق الكلمة وتخترق الصفوف ليصبح التهجير واقعا بدعاوى أطلقوا عليها زورا وبهتانا لفظ ( تضحية النوبيين من أجل الوطن) . 

ما الذي تبقي لنا لنفعله ولم نفعله ، كانت الطبيعة الخلابة تشكل بعدا أساسيا لحياتنا وشخصيتنا النوبية المتميزة أصلا . كانت وادي حلفا علي شاطئ النيل بمبانيها متعددة الطوابق بيضاءه اللون كعروس زفت إلي النيل يوم سبوعها من تاريخ زواجها الميمون ، تحيط بها صويحباتها عن اليمين وعن الشمال . وكانت وادي حلفا مثل تلك العروس تحفها القري من شمالها وجنوبها بمزارعها الخضراء ، وبحدائقها الغناء ، تصاحبها زقزقات الطيور وأسراب الفراشات علي زهورها ونوارها . كانت صور أشجار النخيل والمانجو والجميز والسنط ، تنعكس علي النيل وتعانقه . ولقد ساهمت هذه الطبيعة الجذابة الجميلة الأنيقة في مقاومة الظلم الذي حل بنا ولم تبخل . لقد فجرت كوامن الشجن وأخرجت من أعماق الشعراء والفنانين إبداعات وكلمات وفن تحدي البندقية وكل آليات السلطة القمعية . (أشدو يا حلفا ، أرض سما آقجنا ) ، غناها صالح ولولي وأثار بها مشاعر النوبيين وحواسهم ، اضطر معها المعتمد حسن دفع الله رحمه الله إلي استدعائه وتحذيره ، لكنه لم يهتم بالوعيد والتهديد فظل يغني ضد التهجير كما غني بالرمزية ، وعندما تقرر تحويل الباخرة الثريا من حلفا إلي مصلحة الوابورات بالخرطوم بحري ، غني ولولي في ذلك اليوم وودعها قائلا ( عديله يا باخرة الثريا إن فراق ايلندو صعبا ) وداعا أيتها الباخرة الثريا ، إن فراقك يمزق قلبي . ثم جاءت ملحمة أرقين ، للشاعر الفذ محمد سليمان حسين ، فقد كانت ارقين رمزا للنيل والنخيل والقرى النوبية والذكريات الجميلة والماضي التليد والحاضر العريق . ثم تتابعت الإبداعات في المحس والسكوت وأغنيتهم المشهورة ( قربلون جناكوقن ، خشم الجنة آكقون ، وردلن زهوردن ، كتا منجا آقا أركونق ، حلفا يا بلادوني) لو خشم القربة أصبحت جنة في الأرض ، ولو بها أبواب الجنة ، ولو تعانقت ورودها وزهورها وتراقصت ، حلفا هي بلادنا . وغني الفنان الراحل محمد وردي باغنيات نادرة تغنت بها بقاع النوبة شمالها وجنوبها .كما ساهم فنانو النوبة المصرية ايضا بروائع ا لغناء في التنديد بالسد العالي وبالتمسك بحب بلادهم مثل الشاعر الفنان مصطفى عبد القادر (اشدوا وايلونا جرحقا فيا منجن نوبا) و (اى فجولين باينا) والفنان سيد جاير (وو حنينا اركى نوبيى وو حنينا) ومن حلفا دغيم الفنان شريف سعيد الذي غنى كثيرا (للنقديين) الذين رفضوا الهجرة وآثروا البقاء يحلفا (اسكانا برندل طراولا) . ومن الشعراء الشاعر علي صالح داؤود ، في قصيدته أه علي حلفا ( ما لقومي تأهبوا للرحيل ، وناوا عنك يا عروس النخيل ) ، وقصيدته لا عاصم اليوم من مياه البحيرة ، وقد صاغها لصديقه الشيخ صالح عثمان رحمهم الله جميعا الذي كان يرفض مغادرة أرضه شكلا ومضمونا ن وتبدأ أبيات القصيدة بـ ( ويلك اليوم من بحيرة ناصر ، أركب الفلك مستجيرا وسافر ، لا تقولن سوف آوي لصخر يعصم الناس من عباب زاجر) . والشاعر إبراهيم عبده الذي أبكي الناس بقصائده عن ضياع النوبة ، ولعل أشهرها ذلك الحوار الذي دار بين الطفلة ووالدها حينما سألته أين تضع مفتاح الباب ، فرد عليها لا ضرورة لذلك لأننا لن نعود إليه أبدا . 
والي.........................لقاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق