الأربعاء، 17 سبتمبر 2014

حكايات من الماضي البعيد (23) , (24)

حكايات من الماضي البعيد (23) :



عبر محمد سليمان تبد النيل ووصل الي قريتنا لإجراء المعاينة الأخيرة لموقع المضرب الذي سيثبت فيه المضخة وبعدها عاد مجددا الي اشكيت . يبدو أن الفكرة قد راقت له تماما . كنا نحن الصغار علي عجلة من الأمر لتركيب المضخة وشق الترع والقنوات التي طالما اكتسبنا خبرة في تخطيطها أثناء اللعب أمام منازلنا الطينية . بعد ايام ، وصلت مجموعة من العمال من صعيد مصر ، وعلي الفور بدءوا يقتلعون أشجار السنط الضخمة التي تعترض خط الترعة الرئيسية المتجه من المضرب علي النيل والي الغرب بحوالي نصف كيلو متر . لأول مرة نشاهد كيف يقتلعون الأشجار الضخمة من جذورها ، فقد حفروا حفرة اشبه بالبئر حول الشجرة المسكينة بعمق متر ونصف تقريبا ، ثم قطعوا جذورها وربطوا الشجرة بحبل طويل وأخذوا يجرونها الي ان سقطت الشجرة ومالت علي الأرض . وبعدها أخذوا الفئوس وقطعوا أغصانها ثم أعقابها داخل الحفرة ، وهكذا وضعوا حدا لحياة تلك الأشجار الضخمة التي شهدت مولدنا وأيام طفولتنا .
بدأ العمال في حفر الترعة الرئيسية ، ولا حظنا أن الترعة كانت مرتفعة عند المضرب ويتضاءل ارتفاعها كلما امتدت غربا لتتفرع الي الشمال والجنوب . ثم جاءوا بالمضخة وتم تركيبها ، وذبحوا الذبائح يوم أن ضخت الماء وملأت الترعة وانساب الماء رقراقا وتحولت يمينا وشمالا في اراضي لم تذق طعم الماء من قبل إلا رشات امطار خفيفة تتساقط علي شكل نقاط علي الرمل كانت تزورنا في شهر مايو من كل عام مع قوس قزح كان يغطي سماء الصحابة واشكيت . وحينها كنا نحمل الصفائح المعدنية ونسير في طوابير مع زخات المطر ونحن نغني ( أمبور أمبور كوبي كوبي ، سولق نويلوق كوبي كوبي ) . مسكينة الساقية والشادوف أدوات ريّ الأراضي التي استخدمها أباؤنا وأجدادنا منذ فجر التاريخ ، آن لها الآن أن ترتاح من عناء السنين ، فقد جاءت المضخة الميكانيكية التي تعمل بزيت (الديزل) . كان المسئول عن تشغيل المضخة رجل يدعى عبد المنعم ، جاء به محمد سليمان تبد . وزعت الأراضي علي المزارعين وبدءوا بمحصول الذرة الصيفي ، وكم كان منظره جميلا بسيقانه الغليظة الطويلة وأوراقه الخضراء العريضة ، والأجمل من كل ذلك عندما أخرجت قناديلها مارة بكل المراحل : شرا ثم لبنة ، ثم ثم استواء كامل . في مرحلة اللبنة ، كنا نطارد العصافير ، وعندما تكون بعيدة كنا نستخدم بما يسمي بـ (التوقج) ، ثلاثة حبال بطول متر تلتقي أطرافها بشبكة دائرية صغيرة لا تتجاوز عشرة سنتيمترا يوضع فيها حجر ثم ندور بها في الهو ونطلق حبلا من حبالها وينطلق الحجر الي حيث توجد العصافير فتفر جميعها عندما يقع الحجر بالقرب منها .
بهذا المشروع الصغير المروي ، انتقل مجتمعنا الصغير من الزراعة البدائية الي زراعة متقدمة تتبع فيه الدورة الزراعية بطريقة عفوية ، وشهدت منطقتنا وفود عمال من خارج أرقين ، من دنقلا وغيرها من المناطق البعيدة وقد ساهموا كثيرا بخبراتهم وثقافاتهم ومعارفهم الزراعية في تنظيم ا لأحواض ورفع (التقاند) وإصلاح قنوات الري ، وبنوا رواكيب لهم وسط المزارع وأسسوها بأسرة الخشب والمقاعد وكل الضروريات التي تلزمهم . كان من أكثر السكان الذين اندمجوا مع أولئك العمال جدنا فرح محمد عيسي (فرح شميشة) ، وكان رجلا ذو نوادر وحكم ، وبفضله سرعان ما ألف العمال منطقتنا وصاروا جزءا منها . ونواصل انشاء الله


حكايات من الماضي البعيد (24) :

ما أجمل الخلوات العامرة بالناس في أوقات المقيل وأمسيات الأنس ، أراضي رملية بيضاء طاهرة . أصبحنا نتجمع كل ليلة علي ربوة الرمل الناعمة بعد الكد والعناء اليومي في مزارع الذرة التي اصبحت جزءا من حياتنا . شكرا لمحمد سليمان تبد صاحب فكرة المشروع ، وشكرا لعبد المنعم ظرافة الأسطى المسئول عن تشغيل المضخة . وشكرا لعمنا الراحل حسن صالح آدم الذي كان يعلمنا كيف نصطاد الجراد ونشويه ثم نلتهمه بمذاقه اللذيذ تماما مثل شرائح البطاطس الرقيقة . مشكلة واحدة فقط تسبب فيها المشروع ، وهي مشكلة البهائم والحيوانات التي تلتهم أوراق نبات الذرة وأصحابها في غفلة . لكن أمكن حلها بتحديد أماكن لرعيها جنوب المشروع في مساحة من الأرض كنا نسميها (كترجي) ، ويبدو أنها كانت تتبع لعائلة الكترجية لكن أحدا لم يستثمرها لا في ريها بالسواقي ولا بزراعة جروفها . التداخل السكاني بين شمال أرقين ووسطها كان واقعا ومعروفا ، وعندما نجد النساء قد ارتدين الجرجار ووضعن الطرحة علي رؤوسهن ومن فوقها (الشقة) ، فاعلم أن هنالك أمر جلل قد حدث . وفعلا كنا نسمع عن خبر وفاة ، وكانت الوفيات تحدث في فترات متباعدة تعد بالسنين ، وأحيانا بعد عشرة سنوات وأكثر ، لذلك كان الناس يؤرخون للأحداث بموت فلان أو بفيضان 1946م ، وغيرها من الأحداث .
نمو المشروع الزراعي ساهم ايضا في تقوية الروابط بين الناس ، فقد كانت نساء ارقين وسط يأتين في كل الأوقات صباحا أو عصرا لحش القش لأغنامهن ومسألة الأكل والشراب بعد رحلتهن الطويلة لم تكن مشكلة في يوم من الأيام ، فكن يدخلن في أي بيت وإن لم يجدن أصحاب البيت يدخلن المطبخ لإعداد وجبة طعام سريعة أو لإعداد الشاي الذي كان تناوله مقدسا عند النوبيين . آلة النورج ، آلة مصنوعة من الخشب اشبه بالدبابة ، وأسفلها كمية من الصاجات مثل صاجات (الديسك) التي تستخدم في المشاريع المطرية ، كانت هذه الآلة تستخدم لدرس القمح والذرة . أول من أحضرها هو ابراهيم صالح آدم ، الذي كان قدم حديثا من مصر ليستقر بأرقين بعد أن قضي جل فترة شبابه في مصر . منظر الترعة الرئيسية المليئة بماء الري كان منظرا مألوفا لدينا نحن الصغار ، فقد كنا نصنع مراكب من الخشب ونعلق عليها أشرعة صغيرة ونتركها تطفو ونتسابق بها في مياه الترعة تقليدا للكبار . كانت السلطات في وادى حلفا تنظم مهرجانا سنويا لسباق المراكب ، فكان الناس يتابعون ذلك السباق مع تشجيع أصحابها للفوز ، وكان هنالك كأس وجائزة مالية تسلم لمن كان ترتيبه الأول في السباق ، كان ذلك السباق هو الذي كنا نقلده في مياه الترعة الرئيسية .
مرت بنا الأيام علي هذا المنوال ، غير أن عبد المنعم ظرافة استقال من مهمة تشغيل المضخة ، فجاء بدلا عنه عمنا رحمه الله حسين عابدين ليكون مسئولا عن تشغيل المضخة ، ولم تلبث أيام حتى كان واحد منا . كان عمنا عثمان حسب الله الحارس (الخفير) في الغرفة المشيدة للمضخة . عمنا عثمان حسب الله قضي جل عمره في مصر ، وكان متزوجا من خالتنا زينة فرح وبالنوبية (سينا فرح ) والدة محمد ومرغني عثمان حسب الله . عمنا عثمان كان ممثلا بارعا في التمثيليات التي كانت تعرض في نادي (أمبي) ، ودائما ما كان يمثل دور الشرطي محتفظا بزى الشرطة المصرية ، ويبدو والله أعلم أنه كان يعمل في الشرطة المصرية . تطورت العلاقة بين عمنا عثمان حسب الله وحسين عابدين ، حتي زوجه ابنته الكبرى طاهرة عثمان وقد توفيت رحمها الله في منصف السبعينات بعد أن انجبت معه أبناءها الفاتح وسمير واثنين من البنات . ونواصل انشاء اهاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق