الاثنين، 1 سبتمبر 2014

حكايات من الماضي البعيد (22) :

حكايات من الماضي البعيد (22) :
( أول خطوقا آيل أدونقل تاتسي) ، مطلع قصيدة لابن أدونقا الأديب الشاعر كمال عبد الحليم متعه الله بالصحة والعافية . نزلنا من مركب جدنا عابدون جبارة ، وأخيرا وطأت أقدامي أرض أرقين فغرستها في رمال (أدونقا) الباردة تحت شجرة الجميزة الضخمة إمعانا في اقناع نفسي بأن ايام الغربة قد ولت وأصبحت في موطني . الجميزة الضخمة هي جميزة السيدة النوبية فاطمة حجة ، وللجميزة انطباعات خاصة في الذاكرة لطالما لمت شمل الأهل في مناسبات الأعياد من كل عام لتناول الفطور الجماعي والثرثرة علي ظلالها بالقرب من (القيف) الرملي المنحدر الي النيل الخالد . شربت كوبا من ماء الأزيار المشبعة بالرطوبة والمثبتة علي جزع الشجرة الضخمة ، فارتويت بـ (الكوز) النحاسي (صنع مصر) الذي حول لون الماء الي لون زيتي حتى رشح العرق من مسامات بشرتي . (سلام ، ويفي جرو ، كودي منو ، سيدتون داجرو ) ، استفسارات تلقتها الوالدة من بعض نسوة (أدونقا) ، فاطمة حجة وهانم قاقا ونبوية بيكيا ، لأنهن كن قد رأين رسو المركب بالقرب من الجميزة ونزولنا منها . ردت والدتي عليهن السلام وعرفن منها أننا قادمون من أرض مصر عبر الحدود ، فتعجبن من الرحلة الطويلة التي قطعناها حتى وصلنا الي وطننا الصغير . واصلنا سيرنا للمنزل من خلال غابة تشكلت من اشجار الأثل والسنط وقليل من النخل ، وكلما مررت بشجرة كنت أهيجّ عصافيرها وطيور القماري لأتلذذ بأصوات تصفيق اجنحتها مثل تصفيق التلاميذ في المدرسة عندما تطير من أغصان الشجر . كل جيراننا أتوا لاستقبالنا ولتهنئتنا بسلامة الوصول . وهكذا بدأت أتقلم مع بيئتي التي غادرتها قبل شهر وأكثر ، لأستدرك كل ما وقعت من أحداث في غيابي ولم أجد تغييرا يذكر . جدي رحمه الله ، وصل متأخرا الي منزلنا وهو يحمل لنا بعض من الرطب والعجوة قطفها من نخيله في (أدمن إركي) ، فجلسنا نأكل منها مع شاي اللبن وسألنا عن الخالة وهي في نفس الوقت ابنته وعن حالها وبنتها الصغيرة وأهل (ويسي) نسائها ورجالها ، وعن أهل فرص كيف تركناهم .
جدي كان يملك كثيرا من الأراضي ومزارع النخيل ما بين (فرا دوي ) وشمال أرقين ، وكلها كانت مسجلة باسمة (ملك حر) . وأخبرنا بأن محمد سليمان تبد من عائلة تبد المعروفة في اشكيت وهم صاغة ، قد اتفق معه علي استئجار أرضه في (أراش إركي) كمضرب لمضخة كبيرة سيحضرها لإنشاء مشروع زراعي في منطقتنا لري الأراضي البعيدة عن النيل واستغلالها في زراعة المحاصيل الصيفية والشتوية علي أن تتجه الترعة الرئيسية الي شمال وجنوب (اراش إركي) للاستفادة من أكبر مساحة واستخدام بعض الفلاحين الذين كانوا يقطنون شمال المنطقة كأيدى عاملة مهرة في مجال الزراعة أذكر منهم منصور وشقيقه عثمان . كان ذلك هو النبأ الرئيسي الهام الذي لفت نظري ، ذلك لأننا ومعنا بقية أطفال الحي كنا بخطط الأرض أمام منازلنا في شكل مزارع بأحواضها وجداولها دون أن ندرك بأن ما نفعله سيصبح يوما ما حقيقة واقعة وها قد صدقت نبوؤتنا علي حسب النبأ الذي ذكره جدي الآن . ونواصل انشاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق